يعد موضوع قوة الدولة من الموضوعات المهمة في الدراسات السياسية والجغرافية المعاصرة ، ليس بالمعنى الضيق للقوة العسكرية وحدها، ولكن أساساً بالمعنى الحضاري الأشمل ، على اعتبار أن قوة الدولة هي عبارة عن المحصلة النهائية لمجموع قوتها العسكرية ، مضافاً إليها مواردها الطبيعية وقدراتها الاقتصادية وبنيتها الثقافية والاجتماعية ونظمها السياسية والإدارية وعلاقاتها الدولية، إلى جانب عناصر أخرى كثيرة . وحتى مع توافر هذه العناصر في دولة من الدول، فإن الأهم من ذلك هو تفاعلها مع بعضها داخل الدولة الواحدة ، وما ينشأ بينها من احتمالات ونتائج .
فالقوة إذن من ذلك المنطلق هي إحدى العوامل التي تعلق عليها الدول أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية ، وذلك لما لها من أهمية في رسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي وتحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية الأخرى .
ويمكن تقسيم القوة من حيث تأثيرها ودورها الفاعل على مكانة الدول إلى قسمين ، فهناك دول تمكنها قوتها من أن تلعب دوراً كبيراً على المستوى الدولي، وعلى ضوء ذلك فهي تحدد مجرى العلاقات الدولية ، ومثال ذلك دور الولايات المتحدة الأمريكية الذي تنفرد به بين قوى العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتبوئها مكانة أسمى من مكانة أي ندٍ قوي آخر .
وهناك قوة أخرى ضئيلة الأثر نسبياً على المستوى الدولي ، ولكنها قد تؤثر على المستوى الإقليمي ، وأحياناً قد تكون عديمة الأثر نسبياً ، وهذه القوة تدخل ضمن إطار القوة القومية لأية دولة ، والقوة القومية قد تستخدم كأداة لإملاء أوضاع معينة على الدولة الأخرى المجاورة كفرض نمط سياسي معين أو فكر أيديولوجي كما حدث أيام الاحتلال البريطاني والفرنسي للدول العربية ، وارتباط بعضها بالاتحاد السوفيتي فيما بعد، وهذه قد تأخذ أشكالاً عديدة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، وهناك دول أخرى أمكنها ترويض تلك القوة وتهذيبها والتحكم فيها ومن ثم السيطرة عليها في الحدود التي يقتضيها الدفاع عن أمن الدولة القومي مثلما هو الحال مع السويد وسويسرا ، حيث أن هاتين الدولتين تمتلكان إمكانيات ضخمة نسبياً من القوة ، ولكن قوتها محصورة في الدفاع عن واقع أمني قومي معين أكثر مما هي قوة موجهة لفرض هذا الواقع على الآخرين أو تغييره بطريقة تلحق بهم أي مظهر من مظاهر الضرر .
وتختلف القوة في ممارستها عن استخدام العنف ، حيث أن القوة القومية ذات عناصر كثيرة ووسائل ممارستها متنوعة وأساليب استخدامها متعددة ، أما العنف فله أسلوب واحد فقط .
والقوة القومية للدولة هي عملية ذات أبعاد متشابكة ومتعددة وتتداخل عناصر كثيرة في موقعها من بينها الرقعة الجغرافية الممتدة والكثافة السكانية للدولة أو تقدمها الصناعي أو ضخامة جيشها ...الخ . وهذه العناصر مجتمعة هي التي تكون عناصر القوة في الدولة وليس التركيز على عنصر واحد منفرداً ، فمثلاً البرازيل تتفوق في مساحتها على الولايات المتحدة الأمريكية، ومع ذلك لم يقل أحد أنها دولة قوية . ولدى باكستان أو الهند كذلك تعداد سكاني أكثر من ألمانيا الغربية ، ولكنهما أقل قوة منها . وهناك دول أخرى متقدمة صناعياً ولكنها ليست قوية مثل بلجيكا وسويسرا ، وهناك دول تحتفظ بجيش من الدرجة الأولى ومع ذلك فهي دولة ليس قوية إذا ما قورنت بدول أخرى عديدة أقوى منها .
وهناك أمثلة لدول تجمع بين عدد من العناصر الرئيسية المكونة للقوة ومع ذلك فهي لم تكن قوية ، فالصين في الأربعينيات من القرن العشرين ، وقبل أن يسيطر عليها الحكم الشيوعي كانت تمتلك رقعة جغرافية هائلة وسكانها كانوا يشكلون أكبر تعداد لدولة في العالم ، وكان جيشها ضخماً من حيث العدد والتسلح ومع ذلك كانت الصين دولة ضعيفة، ولم تكن لها سيطرة كاملة على شؤونها الداخلية كما أن نفوذها الدولي كان محدوداً، ولكن بعد سنوات قليلة ارتقت الصين إلى مركز قيادي ضخم في المجتمع الدولي بالرغم من عدم حدوث تغيرات جذرية في مواردها الطبيعية والبشرية من حيث الكم ، ولكن الذي تغير فقط هو كيفية استخدام هذه الموارد ، فمجرد امتلاك هذه الموارد ليس ضماناً في حد ذاته للحصول على القوة ، ولكن استعمال الإمكانيات بطريقة تؤثر في سلوك الدول الأخرى هو الذي يحقق هذه القوة ويبرزها .