موضوع هذه الدراسة هو العلاقة بين الرأي العام وصناعة القرار السياسي. وعلى وجه التحديد هو الدور الذى يمارسه الرأي العام فى صنع القرار . وينطلق التركيز على الرأي العام هنا من أهميته الكبرى بعد أن أخذ يلعب ــ فى العصر الحديث ــ دورا أساسيا فى تحديد طبيعة أنظمة الحكم وتشكيل الأفكار السياسية ، وجاء هذا الدور نتيجة طبيعية لتطور الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية فى مختلف دول العالم ، كما جاء نتيجة لتقدم أساليب العلوم والتكنولوجيا وانتشار التعليم وما صاحب ذلك من طفرة هائلة فى وسائل الاتصال وأساليبها وازدياد فعاليتها . وقد أدرك قادة الدول وحكوماتها هذا الدور الخطير للرأي العام فأولوه اهتمامهم وأخضعوه للدراسة بقصد الوقوف على اتجاهاته لامكان السيطرة عليه أو استمالته للموافقة على السياسات القائمة حتى تجد قراراتهم تأييدا شعبيا.
والحديث عن الرأي العام يدفعنا بالضرورة الى الحديث عن وسائل الاتصال الجماهيرى التى تعد حلقة الوصل بين الرأي العام وصانعي القرارات وعليها يقع عبء خلق التفاعل الطبيعى بين اهتمامات وقضايا الرأي العام وقرارات السلطة السياسية ، الأمر الذى يضمن الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعى من ناحية واحداث التغييرات المجتمعية بطريقة سلمية من ناحية أخرى .
ويمتد دور وسائل الاتصال فى عملية صنع القرار ليشمل اعادة صنع القرار السياسي من خلال طرحه على الرأي العام وتوضيحه وتفسيره بل وتبريره والتأكيد على المفاهيم التى تضمنها القرار بهدف ترسيخها في أذهان المواطنين واقناعهم بها .
ولوسائل الإتصال دور هام أيضاً في كسب تأييد الرأي العام قبل صدور القرار السياسي ، وذلك عن طريق تهيئة الرأي العام لتأييد القرارات التى تعتزم السلطة اصدارها وربما حثه على تقبل هذه القرارات.
وتبرز هنا حقيقة مؤكدة وهى وجود صلة وثيقة بين صناعة القرار ووسائل الاتصال والرأي العام الذي يعد الركيزة الرئيسية المؤثرة فى صنع القرارات ، فالرأي العام فى المجتمع الديمقراطي يمثل مصدراً هاماً فى اختيارات السلطة وتوجهاتها ، كما أن المشرع يستلهم القوانين والتشريعات من توجهات الرأي العام .
وقد عبر " ميرابو " خطيب الثورة الفرنسية عن قوة الرأي العام فقال " إن الرأي العام هو سيد المشرعين والمستبد الذى لا يدانيه فى السلطة المطلقة مستبد آخر " .
وينطلق اهتمام صانع القرار بوسائل الاتصال من إيمانه بأنها تمثل أحد المصادر الرئيسية لنقل المعلومات التي يتطلبها أي قرار سياسي عند التفكير في اتخاذه ، سواء كان ذلك القرار داخليا أو خارجيا ، فنجاح أي قرار يتوقف على مدى توافر المعلومات ، ووجود البدائل عند صانع القرار ، وقدرته على اتخاذ القرار المناسب بحسب طبيعة المشكلة المراد اتخاذ القرار بشأنها .
ووسائل الاتصال ليست مصدراً وحيداً لإمداد صانع القرار بالمعلومات ، ولكنها تعد احدى المصادر الهامة ــ نظرا لاحتكاكها المباشر بالرأي العام ــ إلى جانب مصادر أخرى رئيسية يستعين بها صاحب الأمر في تحديد مسار الأمور . ذلك أن هناك أجهزة خاصة أخرى تهتم بجمع المعلومات وتحليلها بهدف اطلاع صاحب القرار على أمور عسكرية ، أو سياسية ، أو أمنية أو ما عدا ذلك من أمور داخلية أو خارجية .
منهاج الدراسة
وعلى ضوء ما تقدم فإننا نرى تقسيم هذا الكتاب الى ثمانية فصول تتناول الرأي العام و صناعة القرار السياسي ووسائل الاتصال ، كما آثرنا أن نجعل فصوله تبدأ على هيئة أسئلة يتم طرحها على الوجه التالي : -
1 - ماهو الرأي العام ؟ وما علاقته بالنظم السياسية ؟ .
2 - أين تكمن قوة الرأي العام ؟ وماهي عيوبه ؟ .
3 - ماهي السياسة العامة ؟ ومامدى تأثير الرأي العام فيها ؟ .
4 - ماهو القرار السياسي ؟ .
5 - ما مدى حاجة صانع القرار إلى المعلومات ؟.
6 - كيف تتم صناعة قرار السياسة الخارجية ؟ .
7 - ماهو دور وسائل الإتصال في التأثير على الرأي العام وعلى
صناعة القرار ؟ .
8 - وأخيرا عرض لبعض نماذج صناعة القرار في دول مختلفة .
أما الهدف الذي نسعى إليه ــ من خلال الإجابة على هذه الأسئلة ــ فهو اطلاع القارئ على فن حديث ، وجلب الإنتباه إلى ميدان هام يتصل بتشكيل حياتنا وأنماط فكرنا . كما أننا سوف نسعى إلى عرض أمثلة عديدة تبرهن على مدى أهمية الرأي العام وقوته وتأثيره على متخذى القرار في شتى دول العالم ، وكيف أنه كان سببا مباشرا في الإطاحة بقيادات كثيرة عن الحكم بالرغم من نفوذها وجماهيريتها وذلك لتجاهلها الرأي العام وتوجهاته والقضايا مثار اهتمامه .
وفضلاً عن ذلك ، فإن هذه الدراسة ستبين لنا مدى اعتماد كثير من صناع القرار في بعض دول العالم الثالث على الأساليب غير العلمية ، وذلك على الرغم من إحراز العلم تقدماً ملموساً في الأساليب الخاصة بصناعة القرار في دول العالم المتقدم .
ولابد لي في الختام ، أن أشكر من استعنت بخبراتهم في هذا المجال ، سواء كانت هذه الخبرات نابعة من تجارب مروا بها فاستفدت منها ، أو مكتوبة فاقتبست منها أو نقلتها أملاً في أن يكون هذا العمل مساهمة متواضعة في تطويرأسلوب اتخاذ القرار ، وأن يكون بمثابة الدعوة للاهتمام بمراكز الدراسات والمعلومات وتوجهات الرأي العام واتباع الأساليب العلمية لقياسه ، نظراً لأهميته البالغة وتأثيره في النظم السياسية المعاصرة .